الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{قَالَ} استئناف بياني كأن سائلًا يقول: فماذا صنع يوسف حينئذ؟ فقيل: قال مناجيًا لربه عز وجل: {رَبِّ السِّجْنُ} الذي وعدتني بالإلقاء فيه، وهو اسم للمحبس.وقرأ عثمان ومولاه طارق وزيد بن علي والزهري وابن أبي اسحق وابن هرمز ويعقوب: {السجن} بفتح السين على أنه مصدر سجنه أي حبسه، وهو في القراءتين مبتدأ خبره ما بعده، وقرأ: {رب} بالضم و: {السجن} بكسر السين والجر على الإضافة- فرب- حينئذ مبتدأ والخبر هو الخبر.والمعنى على ما قيل: لقاء صاحب السجن أو مقاساة أمره: {أَحَبُّ إلَيَّ} أي آثر عندي لأن فيه مشقة قليلة نافدة إثرها راحات كثيرة أبدية: {ممَّا يَدْعُونَني إلَيْه} من مواتاتها التي تؤدي إلى الشقاوة والعذاب الأليم.وصيغة التفضيل ليست على بابها إذ ليس له عليه السلام شائبة محبة لما يدعونه إليه وإنما هو والسجن شران أهونهما وأقربهما إلى الإيثار السجن والتعبير عن الإيثار بالمحبة لحسم مادة طمعها عن المساعدة لها على مطلوبها خوفًا من الحبس، والاقتصار على السجن لكون الصغار من مستتبعاته على ما قيل.وقيل: اكتفى عليه السلام بذكر السجن عن ذكره لوفائه بالغرض وهو قطع طمعها عن المساعدة خوفًا مما توعدته به لأنها تظن أن السجن أشد عليه من الصغار بناءًا على زعمها أنه فتاها حقيقة وأن الفتيان لا يشق عليهم ذلك مشقة السجن، ومتى كان الأشد أحب إليه مما يدعونه إليه كان غير الأشد أحب إليه من باب أولى، وفيه منع ظاهر.وإسناد الدعوة إليهن لأنهن خوفنه عن مخالفتها وزيّن له مطاوعتها، فقد روي أنهنّ قلن له: أطع مولاتك واقض حاجتها لتأمن من عقوبتها فإنها المظلومة وأنت الظالم، وروي أن كلًا منهنّ طلبت الخلوة لنصيحته فلما خلت به دعته إلى نفسها، وعن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أن كل واحدة منهن أرسلت إليه سرًا تسأله الزيارة، فإسناد ذلك إليهنّ لأنهن أيضًا دعونه إلى أنفسهن صريحًا أو إشارة.وفي أثر ذكره القرطبي أنه عليه السلام لما قال: {رب السجب أحب إليّ} الخ أوحى الله تعالى إليه: يا يوسف أنت جنيت على نفسك ولو قلت: العافية أحب إليَّ عوفيت، ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسأل الصبر، فقد روى الترمذي عن معاذ بن جبل عنه عليه الصلاة والسلام أنه سمع رجلًاوهو يقول: «اللهم إني أسألك الصبر فقال صلى الله عليه وسلم: سألت الله تعالى البلاء فاسأله العافية».{وَإلاَّ تَصْرِفْ} أي وإن لم تدفع: {عَنِّي كَيْدَهُنَّ} في تحبيب ذلك إلي وتحسينه لدي بأن تثبتني على ما أنا عليه من العصمة والفعة: {أَصْبُ إلَيْهِنَّ} أي أمل على قضية الطبيعة وحكم القوة الشهوية إلى إجابتهن بمواتاتها أو إلى أنفسهن وهو كناية عن مواتاتهن (وهذا فزع منه عليه السلام إلى ألطاف الله تعالى جريًا على سنن الأنبياء عليهم السلام والصالحين في قصر نيل الخيرات والنجاة عن الشرور على جناب الله تعالى وسلب القوى والقدر عن أنفسهم ومبالغة في استدعاء لطفه سبحانه في صرف كيدهن بإظهار أنه لا طاقة له بالمدافعة كقول المستغيث: أدركني وإلا هلكت، لا انه عليه السلام يطلب الإجبار و الإلجاء إلى العصمة والعفة وفي نفسه داعية تدعوه إلى السوء) كذا قرره المولى أبو السعود وهو معنى لطيف وقد أخذه من كلام الزمخشري لكن قال القطب وغيره: إنه فرار إلى الاعتزال وإشارة إلى جواب استدلال الأشاعرة بهذه الآية على أن العبد لا ينصرف عن المعصية إلا إذا صرفه الله تعالى، وقد قرر ذلك الإمام بما قرره فليراجع وليتأمل.وأصل: {إلا} إن لا فهي مركبة من إن الشرطية ولا النافية كما أشرنا إليه، وقد أدغمت فيه النون باللام و: {أصب} من صبا يصبو صبوًا وصبوة إذا مال إلى الهوى، ومنه الصبا للريح المخصوصة لأن النفوس تميل إليها لطيب نسيمها وروحها مضارع مجزوم على أنه جواب الشرط، والجملة الشرطية عطف على قوله: {السجن أحب} وجيء بالأولى اسمية دون الثانية لأن أحببته السجن مما يدعونه إليه كانت ثابتة مستمرة ولا كذلك الصرف المطلوب.وقرئ: {أصب} من صبيت صبابة إذا عشقت، وفي البحر الصبابة إفراط الشوق كأن صاحبها ينصب فيما يهوى، والفعل مضمن معنى الميل أيضًا ولذا عدي بإلى أي أصب مائلًا إليهن: {وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} أي الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء، أو من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه من القبائح لأن الحكيم لا يفعل القبيح، فالجهل بمعنى السفاهة ضد الحكمة لا بمعنى عدم العلم، ومن ذلك قوله:
{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} أي أجاب له على أبلغ وجه دعاءه الذي تضمنه قوله: {وإلا تصرف عني كيدهن} [يوسف: 33] الخ فإنه في قوة قوله: اصرفه عني بل أقوى منه في استدعاء الصرف على ما علمت.وفي إسناد الاتسجابة إلى الرب مضافًا إلى ضميره عليه السلام ما لا يخفى من إظهار اللطف، وزاد حسن موقع ذلك افتتاح كلامه عليه السلام بندائه تعالى بعنوان الربوبية: {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} حسب دعائه بأن ثبته على العصمة والعفة وحال بينه وبين المعصية: {إنَّهُ هُوَ السَّميعُ} لدعاء المتضرعين إليه: {الْعَليمُ} بأحوالهم وما انطوت عليه نياتهم وبما يصلحهم لا غيره سبحانه. اهـ.
|